في العادة , تكون الغابة ساكنة و هادئة ليلا لا يسمع فيها سوى أصوات بعض الحيوانات و الهوام الصغيرة , لكن أحيانا , في بعض ليالي السبت , تدب الحياة فجأة في بقعة نائية و منعزلة من الغابة فترتفع وسط أشجار السنديان العملاقة همهمة مشحونة باللذة و النشوة مصدرها أجساد عارية لنسوة يرقصن و يتماوجن في حلقة دائرية يقبع في وسطها الشيطان ببشرته الداكنة و سحنته البشعة و قد ارتسمت على وجهه علامات السعادة و انفرجت شفتيه عن ضحكة مجنونة ارتجت لها أركان الغابة (1).
في القرون الوسطى احرق 100000 انسان في اوربا بتهمة ممارسة السحر
لوحة قديمة تمثل تصويرا متخيلا لما كان يجري خلال سبت الساحرات |
منذ العصور السحيقة في القدم كان للسحر و المعتقدات المرتبطة به أثرا بارزا في حياة الإنسان و في فهمه و تفسيره لما يجري من حوله , و قد لعبت الديانات الوثنية القديمة دورا كبيرا في تعزيز إيمان الإنسان بالغيبيات فصار الناس في المجتمع البدائي يعزون الظواهر التي يعجزون عن تفسيرها إلى السحر و الخوارق , و بمرور الزمان و بتحول الإنسان من البداوة إلى الحضارة , ظهرت في معابد الآلهة الوثنية القديمة طبقة متنفذة من الكهنة و الكاهنات كانت الممارسات السحرية جزء مهم من منظومتهم العقائدية , و ظهرت أيضا مجموعات من النساء الجميلات اللواتي اعتكفن في المعابد و كرسن أنفسهن لخدمة الآلهة فكانت وظيفتهن الرئيسية تتمثل في الغناء و الرقص أثناء ممارسة الطقوس و الشعائر الدينية و أحيانا تقديم البغاء المقدس (2).
في أوربا القديمة مارست الأقوام و القبائل المختلفة طقوسها الوثنية في الهواء الطلق , و لقرون طويلة كانت الغابات و المناطق النائية و المنعزلة مثل "ستون هينج" في انكلترا مسرحا لهذه الاحتفالات المكرسة للآلهة القديمة , لكن تبني الإمبراطورية الرومانية للديانة المسيحية في القرن الرابع للميلاد و ما تلاه من انتشارها في مختلف أجزاء أوربا خلال القرون اللاحقة أدى إلى انحسار و تراجع الديانة الوثنية ثم اندثارها بشكل كامل مع بدء الحملات الصليبية خلال القرن الثاني عشر , الا ان بعض المعتقدات المرتبطة بالوثنية استمرت في تأثيرها على سكان أوربا و تحولت إلى فلكلور حافل بقصص السحر و الأبطال الخرافيين.
إحدى المعتقدات الخرافية التي شاعت في أوربا القرون الوسطى هي ما يسمى بسبت الساحرات (Witches' Sabbath ) و التي ترتبط جذورها بالطقوس الوثنية القديمة التي كانت تمارس في أوربا قبل تحولها إلى المسيحية , إذ اعتقد الناس بأن الساحرات يجتمعن في بعض ليالي السبت في أماكن نائية و منعزلة كالغابات و الجبال من اجل ممارسة شعائر و طقوس تكرس لتبجيل الشيطان و خدمته , و كانت هؤلاء الساحرات فتيات شابات جميلات يمتلكن القدرة على الطيران عن طريق امتطائهن لمخلوقات سحرية كالجن و العفاريت أو يحلقن بواسطة مكانسهن القشية و كن يستعملن هذه القدرة للانتقال إلى الأماكن البعيدة و النائية التي تقام فيها شعائر السبت (3) , و ما أن يصلن إلى هناك حتى يقمن بسحق الصليب تحت أقدامهن ثم يعمدن أنفسهن من جديد باسم الشيطان و يقمن بخلع ملابسهن و يتقدمن واحدة بعد الأخرى لتقبيل مؤخرته و يبدأن بالرقص حوله على شكل حلقة يشاركهن في ذلك الجن و العفاريت الذين كانوا يتقمصون إشكالا بشرية و حيوانية و أحيانا يتقمصون أجساد الساحرات أنفسهن , و تستمر هذه الحفلات الشيطانية من منتصف الليل و حتى مطلع الفجر , تتخللها أنواع العربدة و المجون و الممارسات الجنسية , و خلال هذه الطقوس تقوم الشياطين بتعليم الفتيات على التعاويذ السحرية و إلقاء اللعنات الشريرة , كما تقام مأدبة كبيرة تتضمن شرب كميات كبيرة من الخمور و التضحية بالبشر من اجل التهام لحومهم , خصوصا الأطفال الصغار الذين كانت دمائهم و شحومهم تستخدم للحصول على قدرات سحرية خارقة كالتحليق في الهواء (4).
طبعا جميع المعتقدات و الأساطير التي تدور حول سبت الساحرات مأخوذة في الحقيقة من كتب مؤرخي العصور الوسطى و قد اعتمد هؤلاء في مصادرهم على اعترافات الفتيات و النساء المسكينات اللواتي كن يعذبن ببشاعة ليعترفن بأنهن ساحرات , كانت هؤلاء النسوة يتعرضن للضرب و يمنعن من النوم و يجلدن و يوضع اللجام على أفواههن لمنعهن من الكلام أو التأوه و تعرى أجسادهن للبحث عن "علامة الشيطان" و تكوى جلودهن بقضبان حديدية حارة و يجبرن على الجلوس على "كرسي الساحرات" المغطى بمئات الإبر و المسامير الحديدية الحادة و أحيانا كن يجبرن على الجلوس على أوتاد و خوازيق حديدية حارة بحجة منعهن من ممارسة الجنس مع الشيطان , و هناك طرق و أساليب تعذيب أخرى فما ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض و قد تكون أبشعها و أكثرها وحشية هي تعذيب أطفال وعائلات المتهمات أمام أعينهن حتى يجبرن على الاعتراف , و كما نعلم فأن احتمال الناس للألم يختلف من شخص لأخر , فهناك أشخاص ممكن أن يتحملوا العذاب بصلابة حتى الموت و هناك آخرين مستعدين للاعتراف بأي شيء يملى عليهم من أول صفعة يتلقوها , و لأن النساء في العادة اضعف من الرجال في تحمل الأذى الجسدي لذلك فالكثير منهن كن يعترفن بأي شيء يطلب منهن من اجل التخلص من العذاب و المصيبة أن هذه الاعترافات كانت تتضمن توريط أناس أبرياء آخرين , لكن حتى بعد اعترافهن كان تعذيب أولئك النسوة المسكينات يستمر حتى أثناء موتهن و هن يصلبن و يحرقن ببطء , و الطامة الكبرى هي ان جميع هؤلاء النسوة كن بريئات فالدافع و الغرض الرئيسي من تلفيق القضايا ضدهن كان في الغالب من اجل الانتقام لعداوات شخصية او الاستيلاء على الثروات أو من اجل المال فصائدو السحرة كانوا يتلقون مبلغا من المال عن كل ساحرة يقبضون عليها و طبعا كلما زاد العدد كلما زادت المكافأة.
الى اليمين صورة لكرسي حقيقي كان يستعمل في تعذيب الساحرات و يمكنك ملاحظة المسامير تغطي كل اجزاءه اما الى اليسار فلوحة قديمة تصور عملية حرق الساحرات |
صيد السحرة و الساحرات و صلبهم و حرقهم استمر لعدة قرون و انتشر في كل أرجاء أوربا تقريبا و راح ضحيته قرابة المائة ألف إنسان بريء , و هناك الكثير من القصص المروعة التي ذكرها المؤرخون عن تلك الفترة المظلمة , إحداهن جرت وقائعها في النرويج خلال القرن السابع عشر حيث تم حرق 88 شخصا اغلبهم من النساء في عدد من قرى الصيادين الفقيرة في منطقة فارد التي لم يكن عدد سكانها يتجاوز الثلاثمائة نسمة آنذاك , بعض الوثائق القديمة تذكر تفاصيل ما جرى في تلك المنطقة المنحوسة الواقعة في أقصى شمال العالم حيث الثلج و الظلام يطغيان على كل شيء , تبدأ القصة مع اعترافات فتاة تدعى ماري قالت إن الشيطان أتاها أثناء نومها و طلب منها أن تذهب إلى منزل فتاة تدعى كريستي , و خلال الطريق طلب منها أن تعطيه روحها و تصبح في خدمته و اخبرها انه سيكافئها بسخاء , و قد وافقت ماري على طلبه فقام بغرس أنيابه بين أصابع يدها كعلامة على امتلاكه لروحها , و أخيرا وصل الاثنان إلى منزل كريستي التي أخبرت ماري بأنها يجب أن تذهب معها إلى منطقة نائية من اجل إقامة طقوس سبت السحرة ثم قامت بقراءة تعويذة سحرية حولت ماري إلى غراب و انطلقت الفتاتين في رحلة إلى إحدى الجزر المنعزلة و كان معهن العديد من الساحرات اللواتي تقمصن أشكال و أجسام مختلفة , و عند وصولهن إلى الجزيرة قمن بخلع ملابسهن ثم قبلن مؤخرة الشيطان و امضين الليلة في الرقص و قراءة التعاويذ و صب لعناتهن السحرية على الناس الأبرياء , و قد ادعت ماري في اعترافاتها بأنها شاركت في العديد من حفلات سبت الساحرات كان أخرها في أعياد الميلاد عام 1620 , كما اعترفت بمسؤوليتها عن حدوث عاصفة هوجاء في أعياد ميلاد عام 1617 أدت إلى غرق و موت العشرات من صيادي السمك , إذ زعمت بأنها و بمساعدة كريستي و فتاة أخرى قمن بعمل ثلاث عقد في خيط ثم تلون التعاويذ و بصقن عليها و ما أن جمعن العقد إلى بعضها حتى هاج البحر و ماج و هبت عاصفة هوجاء ابتلعت زوارق الصيادين.
في عام 1621 حكم على ماري بالإعدام و تم حرقها مع كريستي و عدة فتيات أخريات , و طبعا هناك عشرات و مئات القصص التي تشبه قصة ماري النرويجية التي سردناها بالتفصيل لنعطي القارئ الكريم فكرة عن طبيعة التهم التي كانت توجه إلى الفتيات المسكينات و طبيعة الاعترافات المثيرة للسخرية التي كن يجبرن على الإدلاء بها , إذ يبدو ان ماري و كريستي لم يكن يرددن إلا ما يتلى عليهن من قبل معذبيهن الذين استعملوا معهن أسلوب الإغراق (5) عن طريق رميهن في البحر للتأكد من إنهن ساحرات , تخيل عزيزي القارئ أن ترمى في البحر و أين ؟ في القطب المتجمد الشمالي و في منتصف فصل الشتاء , ألن تعترف بأنك ساحر لو فعلوا بك هذا؟ انا شخصيا كنت لأعترف بأني الشيطان بعينه.
رغم انتهاء عصر مطاردة و حرق الساحرات في العصر الحديث و انحسار إيمان الناس بالسحر و الخوارق إلا أن خرافة سبت الساحرات لازالت حية و هناك الكثير من الناس اليوم يؤمنون بأن هناك طوائف سرية مثل جماعة عبدة الشيطان لازالوا يمارسون احتفالات مماثلة تكرس من اجل الشيطان , و هذه الظاهرة لم تعد حكرا على الغرب فالعديد من الدول العربية تشهد انتشارا خفيا لهذه الجماعات التي تمارس طقوسا غريبة خلال حفلات سرية مريبة.
1 – هذا المقال لا يدور حول مسألة السحر و الممارسات المرتبطة به و لكنه يسعى لتوضيح إحدى المعتقدات التي أدت لمطاردة و تعذيب و إعدام ما بين 50000 – 100000 إنسان , غالبيتهم العظمى من النساء , في أوربا و أمريكا خلال القرون الوسطى (الممارسة استمرت حتى القرن الثامن عشر).
2 – البغاء المقدس (Sacred prostitution) : هو ان تقوم المرأة او الفتاة بتكريس نفسها و جسدها في خدمة آلهة مثل عشتار و افروديت و باتيست .. الخ عن طريق ممارسة الجنس مع زوار معبدها , و هناك نوعان من هذه الممارسة , الأول تقوم به طبقة من كاهنات المعبد و تكون العملية الجنسية التي يقمن بها مقدسة و تمارس ضمن طقوس الأعياد و الاحتفالات الدينية الموسمية , خاصة تلك التي تتعلق بالخصوبة و التكاثر و المطر , أما النوع الثاني فهو الذي تمارسه النساء العاديات من اجل الثواب و الحصول على رضا الآلهة , ففي بابل القديمة مثلا , كانت كل امرأة تنذر نفسها للآلهة لمرة واحدة على الأقل خلال حياتها فتتوجه إلى المعبد و تجلس في باحته بانتظار أن يختارها احد الزوار لممارسة الجنس معها , و تختلف المدة التي تقضيها هناك حسب جمالها و عدد النساء المتواجدات داخل المعبد , و عندما يختارها احد الزوار فأنه يقوم بوضع قطعة نقدية صغيرة على ساقها ثم يأخذها الى خارج المعبد ليقضي منها وطره , بعد ذلك تعود المرأة إلى بيتها فيتلقاها أهلها و أصدقائها بالترحيب و التبريك فرحين لوفائها بنذرها. و اغلب الحضارات القديمة في بلاد الرافدين و مصر و اليونان و روما عرفت و مارست الجنس المقدس , في الغالب كانت البغايا ينتمين الى طبقة العبيد و كن يجبرن على العمل في بيوت دعارة ملحقة بالمعابد , أما في أمريكا الجنوبية (ميسوامريكا) فقد ذكر الغزاة الأسبان أن بغايا المعبد كانوا من الأولاد الصغار و المراهقين و ذلك بسبب شيوع ظاهرة الشذوذ الجنسي في تلك المجتمعات.
ختاما يجب أن نتذكر و نحن نقرأ هذه السطور أن مفهوم العلاقات الجنسية و النظرة إلى المرأة كانت تختلف في العصور القديمة عنها في أيامنا هذه , فالجنس لدى القدماء لم يكن يعني مجرد المتعة الحسية و الجسدية و لكنه كان يرمز إلى الخصوبة و التكاثر و يمثل تجسيدا لأساطير ولادة الآلهة و بعثها , لذلك كان مقدسا و محترما , لكن هذه النظرة اختلفت بعد ظهور و انتشار الأديان الإبراهيمية التي حددت مفهوما معينا للعفاف و الاحتشام و لتصرفات المرأة داخل المجتمع ( ولنا عودة إلى هذا الموضوع في مقال مفصل).
ختاما يجب أن نتذكر و نحن نقرأ هذه السطور أن مفهوم العلاقات الجنسية و النظرة إلى المرأة كانت تختلف في العصور القديمة عنها في أيامنا هذه , فالجنس لدى القدماء لم يكن يعني مجرد المتعة الحسية و الجسدية و لكنه كان يرمز إلى الخصوبة و التكاثر و يمثل تجسيدا لأساطير ولادة الآلهة و بعثها , لذلك كان مقدسا و محترما , لكن هذه النظرة اختلفت بعد ظهور و انتشار الأديان الإبراهيمية التي حددت مفهوما معينا للعفاف و الاحتشام و لتصرفات المرأة داخل المجتمع ( ولنا عودة إلى هذا الموضوع في مقال مفصل).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق